الزمان: صباح يوم صيام منذ عدة ايام.
المكان: محطة مترو حدائق المعادي
المشهد: القطار المتجه إلي المرج، يهديء من سرعته تدريجيا.. عدد الركاب قليل كالعادة في مثل هذا الوقت من الصباح.. يفتح المترو أبوابه.. أركب العربة الأولي.. وفجأة أجده جالسا بين الركاب بهدوء خاشع.. يرتدي بدلته الأنيقة.. ويمسك في يده بنظارته الطبية.. ويبدو كما لو كان غارقا في تفكير عميق.. أو لحظات تأمل طويلة.
كنت أعرف عنه مسبقا أنه لا يحب الرسميات، ولا يميل إلي المظاهر، ويفضل دائما التواجد بين الناس.....،،،، ورغم ذلك تملكتني المفاجأة.
اقتربت من الدكتور أسامة الباز السياسي الشهير، والمفكر البارز، ولحسن الحظ أن الكرسي المجاور له كان خاليا، فجلست بجواره، واستأذنته في حوار عن رمضان والناس و.. مترو الأنفاق.. وأشياء أخري.
في البداية، ما فقرات برنامجك اليومي في رمضان؟
بشكل عام الصيام يتطلب الاستيقاظ في وقت مبكر لاستغلال ساعات اليوم، ويجب أن يعرف الإنسان ما المطلوب منه ليرضي الله عز وجل، وأن يهذب سلوكه ويسمو بأخلاقه، وعن نفسي، فأنا مثل أي مواطن مصري، أستيقظ في الصباح الباكر، وأتوجه إلي عملي، مستقلا مترو الأنفاق من محطة ثكنات المعادي حيث أسكن، حتي محطة أنور السادات لأتوجه إلي مكتبي بمبني وزارة الخارجية القديم بميدان التحرير.
أما عن عدد ساعات العمل، والدقة في إنجازه، وبذل الجهد فلا يختلف في شهر رمضان عن غيره من الشهور، لأن الصيام ليس مبررا للكسل أو الإهمال في إنجاز الأعمال، بل علي العكس فإن جوهر الصيام هو الاجتهاد في العبادات والمعاملات.
أليس غريبا أن يركب مسئول بارز بقدر د. أسامة الباز مترو الأنفاق مع غيره من المواطنين العاديين؟
لا ليس غريبا، لأنني مواطن مثلهم، ولا أختلف عنهم في شيء، و"زيي زيهم"، وأنا "معنديش سيارة"، لذلك لابد أن أذهب إلي مقر عملي باستخدام وسيلة مواصلات جيدة، ومترو الأنفاق أفضل الحلول أمامي، واعتدت علي هذا الأمر، فأنا "أركب المترو كل يوم تقريبا".
المترو بالنسبة لحضرتك مجرد (وسيلة مواصلات)، أم فرصة للاحتكاك بالجماهير، والتعايش معهم، والاقتراب من حياتهم اليومية؟
"تقدر تقول الأمرين معا"، فمن ناحية المترو وسيلة المواصلات التي أستقلها للتوجه إلي عملي كما أشرت، وأنا "عمري ما كنت بعيدا عن الناس.. لكي أركب المترو خصيصا لمجرد الاقتراب منهم.. وأنا طول عمري وسط الناس، لأنني واحد منهم.. ولا أشعر بطعم الحياة إلا وسطهم"، لكن من ناحية أخري، تواجدي بين الناس أفادني في التعرف عن قرب علي همومهم ومشاكلهم، والقضايا التي تشغلهم، وأسلوب تعاملهم مع الأحداث.
يصمت السياسي الشهير قليلا ليلتقط أنفاسه، وقد خطت علامات السنين في وجهه وقلبه وفكره تجاعيد من الخبرة والتجربة: مفهوم المواطنة الذي أصبح البند الأول في الدستور لا يعني فقط المساواة، وإنما مفهومه أوسع من ذلك بكثير.. أن أتواجد بين الناس، بمعني أنه "مش بس أكون مواطنا في حالي، لكن يجب أن أشعر بالآخرين".
يستدرك السياسي الشهير قائلا: طبعا مفيش مساواة كاملة، لأن الناس يختلفون في قدراتهم الشخصية وظروفهم المحيطة ومستواهم التعليمي والثقافي، لكن علي الأقل المواطن يطلب المساواة في فرص التطور، وأن يكون العمل الجاد وسيلته لتحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي.. وهذا ليس بكثير.
قلب الرئيس
توقف لحظات عن الكلام عندما توقف القطار في محطة (الملك الصالح) ثم قال: الملك الصالح نجم الدين أيوب كان رجلا عظيما وحاكما عادلا، وكان من طبعه أنه يتحسس أمور الرعية ويحل مشكلاتهم.
ونعود لكلامنا فيكمل: الرئيس مبارك لم يفقد أبدا الإحساس بهموم المواطن البسيط، ويقول دائما أن الدولة إذا فقدت إحساسها بمواطنيها بمختلف فئاتهم "تبقي فشلت"، وهو ما لم ولن يسمح به سيادته أبدا، وكل توجيهاته وتعليماته للحكومات كانت تنصب في أن "يشعروا بالناس".
مصر في محطتين
لمعت عيناه فجأة عندما توقف القطار في محطة (السيدة زينب) قال: السيدة زينب.. وقبلها محطة (الملك الصالح)، وقبلهما محطة (ماري جرجس).. يصمت لحظات ثم يستطرد مضيفا: عظمة مصر تتجلي في محطتي السيدة زينب وماري جرجس، كلتا المحطتين لهما وقع ديني كبير لدي الناس، وتأثير اجتماعي أيضا، وهما تدلان علي التسامح الديني والتنوع الثقافي، وفكرة التعددية التي تمثلها مصر.. تعددية تشمل الجميع.. مسلمين ومسيحيين.. فقراء وأغنياء.. الكل لديه نفس الأفكار والأهداف والانتماء.
أضحك قائلا:
الكل يركب نفس المترو.
محطات وزعماء
دخلنا علي محطة سعد زغلول، استفزني منذ البداية شاب جلس بجوار الدكتور أسامة الباز.. ملاصقا له (كتفا بكتف)، ليس حبا ولا تقربا من شخصية مرموقة، لكن ببساطة نظرا لأن "كنبة المترو بتشيل ثمانية أفراد طوال الرحلة انشغل بالألعاب والنغمات للموبايل، لم يبد عليه أنه يعرف قيمة وقدر السياسي المرموق الجالس بجواره.. انشغل د. الباز بتفقد محطة سعد زغلول، وواصل تعليقه علي أسماء المحطات، فسألته: سعد زغلول.. أنور السادات.. جمال عبد الناصر.. محمد نجيب، أسماء محطات لتكريم ذكري زعماء تاريخيين راحلين، هل تعتقد أن فئة ليست بالقليلة من الجيل الجديد من الشباب أقل اعتزازا بتاريخهم ؟
يجيب: للأسف هذا صحيح.. وأشعر بالقلق حيال ذلك، وأشعر بالقلق للانفصال بين الشباب وبين تاريخهم، لكني أعود وأؤكد علي المواطنة، فعندما يشعر الشاب بالمساواة وعدالة التوزيع وتوافر الفرص المتساوية سيكون أكثر انتماء لمجتمعه ووطنه، انتماء حقيقيا وليس زائفا، والعكس بالعكس.
الدويقة.. والجريمة
اقتربنا من محطة أنور السادات، اقترب د. أسامة الباز من الباب، وقف في دوره انتظارا لفتح الأبواب، سار علي رصيف المحطة.. بهدوء ودون ضجيج وزع ابتسامات علي المواطنين الذين ألقوا عليه السلام، أخرج تذكرته ومر من الماكينة وسرنا معا حتي خرجنا إلي الشارع.
وسط زحام المدينة سألته: ما بين الكارثة الإنسانية في الدويقة وهي تعتبر مشكلة (إسكان)، وبين رجل أعمال شهير يتهم بالتحريض علي قتل مطربة ويعمل في بيزنس الاستثمار العقاري.. (الإسكان) بين قوسين.. هل كانت كلمة ذات دلالة بين الحادثين؟
يرد: ملاحظة دقيقة.. نعم.. الحادثان يعبران عن الفارق بين فئتين تعيشان في نفس الوطن، الأولي في الدويقة تسكن في مساكن عشوائية تفتقد لأبسط شروط الحياة الآدمية، ومع ذلك "راضية بحالها"، أما الفئة الأخري وأنا هنا لا أتحدث عن رجل أعمال بعينه- تعيش حياة رفاهية ولا يكترثون بغيرهم، ورغم ان بعض رجال الأعمال، جاءوا من أسر بسيطة، لكنهم الآن يتصرفون بأسلوب لا يدل علي إدراكهم لمعاناة الآخرين.
المصريون شعب طيب وغير حقود، ولا يشغلهم "فلان معاه كام"، ولا يحسدون الأغنياء علي ثرائهم.. زمان الأغنياء كانوا يشعرون بالفقراء، ويقيمون أعمالا خيرية ومساعدات اجتماعية، وربما رجال الأعمال الآن يفعلون الأمر نفسه، لكن الأهم ألا يصاحب ذلك أية مظاهر استفزازية للثراء الفاحش تضايق الفقراء ومحدودي الدخل.
أخيرا.. باعتبارك راكبا دائما لمترو الأنفاق، ما الذي تتمني أن تجده في المترو؟
ياريت يزودوا عدد القطارات لاستيعاب الزحام الشديد.. وياريت كمان يزودوا المراوح خصوصا في الحر.. والصيام
موضوع: أسامة الباز في حوار داخل مترو الأنفاق 
الخميس سبتمبر 11, 2008 1:36 pm