حكايات الطفولة وفرص العمر

نشأ على الهامش.. في عائلة «خمس نجوم» كما يقال .. ليس للدلالة على الترف.. إنما على كل ما هو خارج عن المألوف.. كان الوضع أشبه بسفينة يتقاسم دفتها أكثر من ربان.. ومطبخ بأكثر من «شيف» وسكين وأدوات أخرى تحرك مسرح الأحداث .. ما عداه هو .. كان صفراً على الشمال .. وأداةً مركونة على رف «مطبخ» يزدحم بأهل البيت والزوار و«الخطّار».

حيث القرار مشترك.. فكل لديه دلو يفرغه في فم المعترض على الوضع السائد.. الجد مستحكم برأيه .. مسيطر على تربية الأولاد.. والجدة تكيل جرعات الدلال الزائد.. الأب غائب أو مغيب لا يهم .. أما الأم فشمعة تحترق بلهب الصمت غالباً.. وتخترق سقف اللاءات التي تفرضها العائلة أحياناً ..

كان وسيط عقدٍ بين الذكور والإناث، ولد ذكراً بعد اثنين يكبرانه.. قدومه لم يحظ بالكثير من الفرح .. لأن الأسرة كانت تترقب سعادةً تمنحها «سارة» التي طال انتظارها.. والتي بقدومها قاسمته لحظات الحب والأمان.. واستولت على نصيبه من الرعاية والاهتمام ..

مرت سنوات حياته بأقل عدد من الأحداث .. كل شيء هادئ .. مياه التغيير راكدة .. ومرحلة الدراسة كانت الأقل حظاً.. بينما كان النجاح جوازاً لفرحة عارمة .. في وجه مواد الدور الثاني .. التي كانت تضطره أحياناً إلى قضاء شهور الصيف حبيس الخجل والخيبة .. والرسوب أخيراً .. وسط غضب العائلة وانتقادات الإخوة التي كانت تقضي على ما تبقى من الروح المعنوية.. في وجه فشل محقق .. لم يكمل على أثره الدراسة وتوقف في منتصف الطريق ..

كان الفشل الدراسي «الكبوة» التي أوقعت جواد «علي» في خندق ما زال يختبئ فيه إلى الآن .. وظلت خيبات ذلك الفشل تنحت مصيره .. وترسم ما تبقى من أحداث حياته .. حاولت بعض الأيادي انتشاله ونجحت .. واستفاق علي على وظيفة لا بأس بها .. أمنت له ما كان يحتاجه أي شاب في عمره..

اقتنى السيارة .. وحقق رضاً نسبياً كان صداه تغير نظرة العائلة والمحيطين.. بأولى بوادر النجاح..

مرت سنوات أخرى .. أتت على أخضر عمره ويابسه .. فالوظيفة لم تتغير، والترقية بانتظار شهادات عليا .. الحياة تمر بطيئة جداً .. والأيام تزحف دون أن تكترث بوقوفه حائراً بنفسه.. مشفقاً على شبابه الراكض..

تزوج أخواه .. ورزق كل منهما بأبناء اقتسموا خبز حنان العائلة.. الأم والأب والجدة.. طبعاً بعد رحيل الجد الذي زرع في نفس علي سخطاً على الحياة التي لم يجد فيها سنداً بعد! وتوالت نجاحات شقيقاته .. بعد تخرجهن من الجامعة .. وحصولهن على وظائف تليق بإشادة وفخر الجميع .. وهو مازال ينتظر ..

تغير ثانٍ يطرأ على حياة علي .. ترقية وظيفية في منتصف العقد الثلاثيني.. وبعد خبرة 13 عاماً من العمل الروتيني.. تتحسن أوضاع وتتغير أوضاع أخرى .. إحساس عارم بالمسؤولية الوظيفية .. وشعور جارف بضرورة وضع أولى اللبنات في طريق بناء العائلة.. قرار باركته الأم بدموع حبستها طويلاً في انتظار فرح يتذكر ابنها.. ودعوة مستجابة تشرح صدره للحياة ..

فعلاً .. دأب علي على تجهيز نفسه .. وترتيب أموره للحياة الجديدة، الفلس على الفلس .. الطابوقة تلو الأخرى .. في جدار المنزل الذي يتزين استعداداً لشريكة الحياة .. العائلة بانتظار الحدث السعيد، والوالدة لم تألُ جهداً في البحث عنها .. وقع الاختيار على ابنة الخال مريم ..

وكان الرفض بانتظار الحدث السعيد .. «مريم تبغي تكمل دراستها .. وباقيلها 3 سنين.. سامحونا ماشي نصيب». لا استسلام .. فالزواج قسمة ونصيب ..

اللي بعده .. حصة ابنة الجيران، «حياكم الله، علي ولدنا وما بنلقى أحسن عنه». الأمور على ما يرام في الطريق إلى الفرحة الكبيرة.. تعترض صغائر الأمور .. وتطيح بحلم علي مرة أخرى .. مهر حصة وأحلامها تتجاوز النصف مليون درهم.. وميزانية علي أقل من ذلك بكثير.. تهاوت أمنيات علي وتضاءلت فرصه.. لملم قروشه الباقية .. متجهاً نحو أقرب معرض للسيارات، مقتنياً عروساً بأربع عجلات..

أمل الفلاسي